سايكس بيكو...تلك الإتفاقية اللعينة التي قسمت الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط على ورقة بائسة وبجرة قلم واحدة حسب المصالح وبالتراضي بين القوى العظمى آنذاك بريطانيا وفرنسا وروسيا... كان ذلك سنة 1916.
بمقتضى هذه الإتفاقية السرية، استباحت كل من فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية حرمة مناطق الدولة العثمانية المريضة آنذاك بالانقسامات والثورات الداخلية، وقد تم الوصول إلى المخطط النهائي بين أفريل وماي من سنة 1916، وتم الكشف عن هذا الإتفاق بعد وصول الشيوعيين إلى سدة الحكم في روسيا، مما أثار غضب وسخط الشعوب التي مستها المعاهدة.
بهذه الطريقة إذن، اتفقت القوى العظمى بموجب نص الإتفاقية على تفكيك الدولة العثمانية وجعلها منطقة مترامية الأطراف، حيث تحصلت روسيا على القسطنطينية (إسطنبول) وسيطرت على البوسفور ومساحات واسعة في شرق الأناضول بالمناطق المحاذية للحدود الروسية التركية. أما فرنسا فقد تحصلت على القطعة الأكبر من كعكة بلاد الشام وجزء آخر بجنوب الأناضول ومنطقة الموصل في العراق.
أما عجوز الاستعمار، بريطانيا، فقد بسطت نفوذها على مناطق كبيرة من بلاد الشام الجنوبي حيث ضمت إليها بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين الخليج الفارسي والمنطقة الفرنسية.
أما فلسطين، فقد قررت الدول المستعمرة إبقائها تحت الإدارة الدولية إلى حين مع الاتفاق على منح بريطانيا مينائي حيفا وعكا وأن يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا.
بهذه الطريقة الظالمة والجشعة، قسم العالم العربي الإسلامي إلى أشلاء متناثرة من طرف قوى استعمارية لم تول أي اهتمام لتاريخ المنطقة وانتمائها الحضاري والديني أو حتى القبلي... وكانت بذلك طعنة لا زالت المنطقة العربية والإسلامية تنزف منها إلى غاية اليوم.
بالرغم من هذا الجشع والطمع الاستعماري، وضعت القبائل العربية آنذاك كل ثقتها في بريطانيا خاصة التي أخلفت بكل وعودها تجاههم بل وداست بعدها على مقدسات العرب والمسلمين. حيث أهملت اتفاق "الحسين - مكماهون" الذي تعهدت فيه بجعل فلسطين جزءًا من الدول العربية وضربت به عرض الحائط، وأصبحت فلسطين بمقتضى "سايكس - بيكو" تحت رحمة الإدارة الدولية، قبل أن تسلم مفاتيحها لليهود لإقامة وطن قومي لهم في قلب فلسطين وفي قلب المنطقة العربية الإسلامية لتكون بمثابة الشوكة العالقة في حلق العالم الإسلامي وأي شوكة.
المعروف أن مؤامرة "سايكس - بيكو" تمت حياكتها في سرية تامة بعيدا عن الشريف حسين زعيم القبائل العربية بأرض الحجاز الذي لم يكن يعلم عنها شيئًا، رغم أن سايكس وبيكو اجتمعا بالشريف حسين بعدها بأيام وطلبا منه مساعدة العرب للحلفاء في الحرب. والأدهى والأمر هو أن الشريف حسين لم يعلم بالاتفاقية إلا بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 وإعلان بذلك البلاشفة عن المعاهدات السرية التي وقعتها روسيا القيصرية من بينها "سايكس ـ بيكو"، عندها كانت المفاجأة التي وقعت على رأس الشريف حسين كالصاعقة حيث لم يصدق ما جاءت به هذه الاتفاقية، الأمر الذي أدى به إلى المسارعة بتقديم احتجاج رسمي إلى السلطات البريطانية، لكن عمدت بريطانيا إلى طمأنته بأنها ستبقى ملتزمة بالعهود التي قطعتها معه، فمضى في تأييدها ومساندتها واستمر في ثورته ضد الأتراك.
ما أشبه اليوم بالأمس
المفارقة اليوم أنه وبعد قرن من تداعي الأمم الغربية على العالم العربي الإسلامي كما تتداعى الأكلة على قصعتها، نعيش نفس المشهد ونفس الظروف ونفس المصير... بعد قرن من الزمن مازلنا تحت رحمة قوى الأمس بالرغم من استقلال دولنا ووحدة ترابنا... وبعد قرن من الزمن لم نحفظ الدرس بعد فنهش الغرب منا وأشعل ثورات في أرجاءنا وهو اليوم يسارع إلى تقسيم العالم العربي كما قسمه سرا ذات مرة، ويحضر لسايكس بيكو ثانية يسعى من خلالها هذه المرة إلى تفتيت الشرق الأوسط عن آخره وشمال إفريقيا وربما إلى الأبد.
... بعد قرن على تطبيق مخطط التقسيم الأول، ستكون الدول العربية كالعادة وبدون أدنى شك ضحية التقسيم الثاني الذي سيعصف بالوحدة الترابية للعراق ويفتت سوريا إلى دويلات، ويفجر اليمن ويعبث بليبيا، كل ذلك على أساس ديني، طائفي وعرقي وطبعا حسب ما يرضي القوى العظمى ويخدم مصالحها كما فعلته أيام الإستعمار القديم.
... بعد قرن من الزمن مازال العرب يرتمون في أحضان قوى الشر، كما فعلت القبائل العربية في أرض السعودية التي استغلها الإنجليز في الثورة والإنقلاب على الحكم العثماني آنذاك واهمين إياها بدولة مستقلة وهمية دون أن تدري بأن مصيرها قد حسم في الوقت الذي كانت تدفع بأبنائها إلى القتال والموت، حيث كانت فرنسا وبريطانيا تقتسمان الكعكة العربية وخرجت هي بخفي حنين...هي سفاهة ما زلنا نعيشها إلى اليوم، فهذه حرب بالوكالة وهذه ثورات مزيفة من هنا وانقلابات عسكرية من هناك...
... ولكن تبقى الكارثة الحقيقية التي جاءت بها إتفاقيات سايكس بيكو الأولى هي أنها أفضت إلى الإعلان على إنشاء دولة لليهود، فغرس بذلك الخنجر عميقا في صدر العرب والمسلمين السذج الذين مازالت دمائهم تنزف إلى اليوم... فيا ترى، ماذا تخبأ لنا سايكس بيكو الثانية؟
عرب نيوز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق